❞ كتاب تفسير القرآن الكريم سورة غافر ❝  ⏤ محمد بن صالح العثيمين

❞ كتاب تفسير القرآن الكريم سورة غافر ❝ ⏤ محمد بن صالح العثيمين

سورة غافر سورة مكية إلا الآيات 56 و57 فهي مدنية، السورة من المثاني، آياتها 85، وترتيبها في المصحف 40، في الجزء الرابع والعشرين، بدأت بحروف مقطعة، وهي من مجموعة سور "الحواميم" التي تبدأ Ra bracket.png حم Aya-1.png La bracket.png، نزلت بعد سورة الزمر، وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.

التسميَــة
سميت "سورة غافر" لأن الله ذكر هذا الوصف الجليل -الذي هو من صفات الله الحسنى- في مطلع السورة الكريمة ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[40:3] وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن ﴿وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار﴾[40:42] وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.

ما تتضمن السورة
سورة غافر مكيّة وهي من أكثر سور القرآن الكريم التي فيها دعاء فقد ابتدأت بذكر صفتين من صفات رحمة الله ومغفرته ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[40:3] ثم أعقبت بدعوة الملائكة للمؤمنين ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [40:7] وفيها دعوة الله عباده لدعائه وأعقب هذا الدعاء بالاستجابة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [40:60] وفيها دعوة الله عباده بالدعاء له وهو يضمن لهم الإجابة فهو غافر الذنب وقابل التوب الله.

والسورة تتحدث عن نماذج أناس دعوا إلى الله والأهم أنهم فوّضوا أمرهم لله لأن الداعي إلى الله قد يواجه بالأذى ممن يدعوهم ولهذا يحتاج إلى أن يفوض أمره إلى الله بعد أن يبذل كل ما بوسعه في سبيل الدعوة لله. ومن هذه النماذج نموذج موسى في دعوته لفرعون الطاغية الجبّار وقومه وقد جابه فرعون موسى حتى كاد أن يقتله فوّض موسى أمره إلى الله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ۝26وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ۝27﴾ [40:26—27] وفي هذا الموقف الصعب يظهر من آل فرعون رجل يكتم إيمانه وهذه المرة الأولى التي يحدثنا القرآن عن قصة هذا المؤمن من آل فرعون مع أن قصة موسى تكررت كثيراً في القرآن لكن وجود هذه الجزئية من القصة هنا يخدم هدف السورة تماماً. وهذا الرجل المؤمن جادل فرعون وقومه بأساليب متعددة:

باستخدام المنطق ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [40:28].

باستخدام العاطفة ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [40:29]، ومن اللافت في هذه الدعوة أنه نسب الملك لهم أي لآل فرعون ﴿لكم الملك﴾[40:29] ولمّا تحدث عن العذاب شمل نفسه معهم ﴿فمن ينصرنا من بأس الله﴾[40:29] إظهاراً للمودة وحب الخير لقومه.

باستخدام الحبّ والخوف عليهم والحرص على نجاتهم ﴿وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ۝30مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ۝31﴾ [40:30—31].

باستخدام التاريخ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [40:34]، التذكير بتاريخ من سبق وصنيعهم مع رسولهم للعبرة والاتعاظ.

ثم ذكّر بيوم القيامة وبلقاء الله لأنها من أهم الأسباب التي ترقق القلب ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [40:32]، كلمة ﴿التناد﴾ في وصف يوم القيامة ليظهر لنا صورة كيف ينادي الناس بعضهم البعض في هذا الحشر العظيم وفي هذا الموقف الهائل وحرصه على نجاتهم في هذا الموقف. ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [40:33]. ثم عاد إلى العقل ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [40:41]، ثم عاد للتفويض مرة ثانية بعد أن جادلهم بكل الوسائل الممكنة، فلمّا فوّض أمره إلى الله ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [40:44] جاء الرد من الله ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [40:45] وكذلك مع موسى ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [40:27].

الملخص
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل، قضية الإيمان والكفر، قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخد العالين والمتجبرين... وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

جو السورة كله – كأنه جو معركة، وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان وبين المتكبرين والمتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخدهم بالمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين. كما يتمثل في عرض مشاهد يوم القيامة –هذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر – وتفرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [40:3].. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس.

كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكرر تتردد مي مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.

والسورة كلها تبدو كأنها مطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناُ فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق، وعي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية. وتضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة من هذه وتلك...

من مصارع الغابرين: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم﴾[40:5].

ومن مشاهد القيامة: ﴿وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين﴾[40:18].

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم﴾[40:7].

ومن اللمسات الموحية عرض أيات الله في الأنفس وفي الآفاق: ﴿هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل﴾[40:67].

ويجري سياق السورة في موضوعاتها في أربعة أشواط

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: ﴿حم۝1تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ۝2﴾ [40:1—2] ثم تقرر أن الوجود كله مستسلم لله، والكفار في موقف الذلة والانكسار يقرون بذنبهم ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الاعتراف.

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم، وتعرض قصة موسى من فرعون وهامان وقارون، والحوار بين الذين استكبروا مع خزنة جهنم، وقي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله ﷺ إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجه ولا برهان إنما يدفعهم لهذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر، ويوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق، سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه.

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث، فبعد توجيه الرسول ﷺ للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله﴾[40:78] ويصور ختام السورة نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.
محمد بن صالح العثيمين - محمد بن صالح العثيمين ، هو أبو عَبد الله مُحَمّد بن صَالِح بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمن العُثَيْمِين الوهيبي التميمي (29 مارس 1929 - 11 يناير 2001).

 ولد في ليلة 27 رمضان عام 1347 هـ، في عنيزة إحدى مدن القصيم. قرأ القرآن الكريم على جده من جهة أمه عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ؛ فحفظه ثم اتجه إلى طلب العلم وتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب.




❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ شرح رياض الصالحين (ابن عثيمين) ❝ ❞ شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ❝ ❞ شرح الآجرومية ❝ ❞ عقيدة أهل السنة والجماعة ❝ ❞ شرح كتاب السياسة الشرعية ❝ ❞ مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / المجلد الأول : العقيدة ❝ ❞ القول المفيد على كتاب التوحيد ❝ ❞ شرح صحيح البخاري ❝ ❞ EHL-İ SÜNNRT VEL-CEMAAT AKÎDESİ - عقيدة أهل السنة والجماعة (تركي) ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ مكتبة الملك فهد الوطنية ❝ ❞ موقع دار الإسلام ❝ ❞ دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الإسلام للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار ابن الجوزي ❝ ❞ دار طيبة للنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتبة الرشد ❝ ❞ المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة ❝ ❞ دار العاصمة للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الوطن للطباعة والنشر والعلاقات العامة ❝ ❞ مدار الوطن للنشر ❝ ❞ مكتبة الصحابة ❝ ❞ مكتب الدعوة بالربوة ❝ ❞ دار ابن خزيمة للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار أضواء السلف ❝ ❞ دار ابن القيم ❝ ❞ الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء ❝ ❞ مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية ❝ ❞ دار الثريا للنشر ❝ ❞ مكتبة السنة ❝ ❞ دار الوطن ❝ ❞ وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ❝ ❞ دار الغد الجديد ❝ ❞ دار طويق للنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار البصيرة ❝ ❞ دار السنة ❝ ❞ مكتبة التوعية الإسلامية ❝ ❞ دار عباد الرحمن ❝ ❞ مكتبة الأمة ❝ ❞ مؤسسة الشيخ محمد ابن صالح العثيمين ❝ ❞ الإسلام 2012 ❝ ❞ دار ابن الهيثم ❝ ❞ دار الدرة للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار الشريعة ❝ ❱
من التفاسير القرآنية كتب التفاسير وعلوم القرآن الكريم - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
تفسير القرآن الكريم سورة غافر

2016م - 1446هـ
سورة غافر سورة مكية إلا الآيات 56 و57 فهي مدنية، السورة من المثاني، آياتها 85، وترتيبها في المصحف 40، في الجزء الرابع والعشرين، بدأت بحروف مقطعة، وهي من مجموعة سور "الحواميم" التي تبدأ Ra bracket.png حم Aya-1.png La bracket.png، نزلت بعد سورة الزمر، وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.

التسميَــة
سميت "سورة غافر" لأن الله ذكر هذا الوصف الجليل -الذي هو من صفات الله الحسنى- في مطلع السورة الكريمة ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[40:3] وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن ﴿وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار﴾[40:42] وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.

ما تتضمن السورة
سورة غافر مكيّة وهي من أكثر سور القرآن الكريم التي فيها دعاء فقد ابتدأت بذكر صفتين من صفات رحمة الله ومغفرته ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[40:3] ثم أعقبت بدعوة الملائكة للمؤمنين ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [40:7] وفيها دعوة الله عباده لدعائه وأعقب هذا الدعاء بالاستجابة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [40:60] وفيها دعوة الله عباده بالدعاء له وهو يضمن لهم الإجابة فهو غافر الذنب وقابل التوب الله.

والسورة تتحدث عن نماذج أناس دعوا إلى الله والأهم أنهم فوّضوا أمرهم لله لأن الداعي إلى الله قد يواجه بالأذى ممن يدعوهم ولهذا يحتاج إلى أن يفوض أمره إلى الله بعد أن يبذل كل ما بوسعه في سبيل الدعوة لله. ومن هذه النماذج نموذج موسى في دعوته لفرعون الطاغية الجبّار وقومه وقد جابه فرعون موسى حتى كاد أن يقتله فوّض موسى أمره إلى الله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ۝26وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ۝27﴾ [40:26—27] وفي هذا الموقف الصعب يظهر من آل فرعون رجل يكتم إيمانه وهذه المرة الأولى التي يحدثنا القرآن عن قصة هذا المؤمن من آل فرعون مع أن قصة موسى تكررت كثيراً في القرآن لكن وجود هذه الجزئية من القصة هنا يخدم هدف السورة تماماً. وهذا الرجل المؤمن جادل فرعون وقومه بأساليب متعددة:

باستخدام المنطق ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [40:28].

باستخدام العاطفة ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [40:29]، ومن اللافت في هذه الدعوة أنه نسب الملك لهم أي لآل فرعون ﴿لكم الملك﴾[40:29] ولمّا تحدث عن العذاب شمل نفسه معهم ﴿فمن ينصرنا من بأس الله﴾[40:29] إظهاراً للمودة وحب الخير لقومه.

باستخدام الحبّ والخوف عليهم والحرص على نجاتهم ﴿وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ۝30مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ۝31﴾ [40:30—31].

باستخدام التاريخ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [40:34]، التذكير بتاريخ من سبق وصنيعهم مع رسولهم للعبرة والاتعاظ.

ثم ذكّر بيوم القيامة وبلقاء الله لأنها من أهم الأسباب التي ترقق القلب ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [40:32]، كلمة ﴿التناد﴾ في وصف يوم القيامة ليظهر لنا صورة كيف ينادي الناس بعضهم البعض في هذا الحشر العظيم وفي هذا الموقف الهائل وحرصه على نجاتهم في هذا الموقف. ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [40:33]. ثم عاد إلى العقل ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [40:41]، ثم عاد للتفويض مرة ثانية بعد أن جادلهم بكل الوسائل الممكنة، فلمّا فوّض أمره إلى الله ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [40:44] جاء الرد من الله ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [40:45] وكذلك مع موسى ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [40:27].

الملخص
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل، قضية الإيمان والكفر، قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخد العالين والمتجبرين... وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

جو السورة كله – كأنه جو معركة، وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان وبين المتكبرين والمتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخدهم بالمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين. كما يتمثل في عرض مشاهد يوم القيامة –هذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر – وتفرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [40:3].. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس.

كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكرر تتردد مي مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.

والسورة كلها تبدو كأنها مطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناُ فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق، وعي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية. وتضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة من هذه وتلك...

من مصارع الغابرين: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم﴾[40:5].

ومن مشاهد القيامة: ﴿وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين﴾[40:18].

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم﴾[40:7].

ومن اللمسات الموحية عرض أيات الله في الأنفس وفي الآفاق: ﴿هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل﴾[40:67].

ويجري سياق السورة في موضوعاتها في أربعة أشواط

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: ﴿حم۝1تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ۝2﴾ [40:1—2] ثم تقرر أن الوجود كله مستسلم لله، والكفار في موقف الذلة والانكسار يقرون بذنبهم ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الاعتراف.

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم، وتعرض قصة موسى من فرعون وهامان وقارون، والحوار بين الذين استكبروا مع خزنة جهنم، وقي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله ﷺ إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجه ولا برهان إنما يدفعهم لهذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر، ويوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق، سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه.

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث، فبعد توجيه الرسول ﷺ للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله﴾[40:78] ويصور ختام السورة نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.

.
المزيد..

تعليقات القرّاء:

سورة غافر سورة مكية إلا الآيات 56 و57 فهي مدنية، السورة من المثاني، آياتها 85، وترتيبها في المصحف 40، في الجزء الرابع والعشرين، بدأت بحروف مقطعة، وهي من مجموعة سور "الحواميم" التي تبدأ Ra bracket.png حم Aya-1.png La bracket.png، نزلت بعد سورة الزمر، وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.

التسميَــة
سميت "سورة غافر" لأن الله ذكر هذا الوصف الجليل -الذي هو من صفات الله الحسنى- في مطلع السورة الكريمة ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[40:3] وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن ﴿وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار﴾[40:42] وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.

ما تتضمن السورة
سورة غافر مكيّة وهي من أكثر سور القرآن الكريم التي فيها دعاء فقد ابتدأت بذكر صفتين من صفات رحمة الله ومغفرته ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾[40:3] ثم أعقبت بدعوة الملائكة للمؤمنين ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [40:7] وفيها دعوة الله عباده لدعائه وأعقب هذا الدعاء بالاستجابة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [40:60] وفيها دعوة الله عباده بالدعاء له وهو يضمن لهم الإجابة فهو غافر الذنب وقابل التوب الله.

والسورة تتحدث عن نماذج أناس دعوا إلى الله والأهم أنهم فوّضوا أمرهم لله لأن الداعي إلى الله قد يواجه بالأذى ممن يدعوهم ولهذا يحتاج إلى أن يفوض أمره إلى الله بعد أن يبذل كل ما بوسعه في سبيل الدعوة لله. ومن هذه النماذج نموذج موسى في دعوته لفرعون الطاغية الجبّار وقومه وقد جابه فرعون موسى حتى كاد أن يقتله فوّض موسى أمره إلى الله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ۝26وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ۝27﴾ [40:26—27] وفي هذا الموقف الصعب يظهر من آل فرعون رجل يكتم إيمانه وهذه المرة الأولى التي يحدثنا القرآن عن قصة هذا المؤمن من آل فرعون مع أن قصة موسى تكررت كثيراً في القرآن لكن وجود هذه الجزئية من القصة هنا يخدم هدف السورة تماماً. وهذا الرجل المؤمن جادل فرعون وقومه بأساليب متعددة:

باستخدام المنطق ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [40:28].

باستخدام العاطفة ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [40:29]، ومن اللافت في هذه الدعوة أنه نسب الملك لهم أي لآل فرعون ﴿لكم الملك﴾[40:29] ولمّا تحدث عن العذاب شمل نفسه معهم ﴿فمن ينصرنا من بأس الله﴾[40:29] إظهاراً للمودة وحب الخير لقومه.

باستخدام الحبّ والخوف عليهم والحرص على نجاتهم ﴿وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ۝30مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ۝31﴾ [40:30—31].

باستخدام التاريخ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [40:34]، التذكير بتاريخ من سبق وصنيعهم مع رسولهم للعبرة والاتعاظ.

ثم ذكّر بيوم القيامة وبلقاء الله لأنها من أهم الأسباب التي ترقق القلب ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [40:32]، كلمة ﴿التناد﴾ في وصف يوم القيامة ليظهر لنا صورة كيف ينادي الناس بعضهم البعض في هذا الحشر العظيم وفي هذا الموقف الهائل وحرصه على نجاتهم في هذا الموقف. ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [40:33]. ثم عاد إلى العقل ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [40:41]، ثم عاد للتفويض مرة ثانية بعد أن جادلهم بكل الوسائل الممكنة، فلمّا فوّض أمره إلى الله ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [40:44] جاء الرد من الله ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [40:45] وكذلك مع موسى ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [40:27].

الملخص
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل، قضية الإيمان والكفر، قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخد العالين والمتجبرين... وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

جو السورة كله – كأنه جو معركة، وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان وبين المتكبرين والمتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخدهم بالمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين. كما يتمثل في عرض مشاهد يوم القيامة –هذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر – وتفرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [40:3].. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس.

كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكرر تتردد مي مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.

والسورة كلها تبدو كأنها مطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناُ فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق، وعي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية. وتضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة من هذه وتلك...

من مصارع الغابرين: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم﴾[40:5].

ومن مشاهد القيامة: ﴿وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين﴾[40:18].

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم﴾[40:7].

ومن اللمسات الموحية عرض أيات الله في الأنفس وفي الآفاق: ﴿هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل﴾[40:67].

ويجري سياق السورة في موضوعاتها في أربعة أشواط

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: ﴿حم۝1تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ۝2﴾ [40:1—2] ثم تقرر أن الوجود كله مستسلم لله، والكفار في موقف الذلة والانكسار يقرون بذنبهم ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الاعتراف.

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم، وتعرض قصة موسى من فرعون وهامان وقارون، والحوار بين الذين استكبروا مع خزنة جهنم، وقي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله ﷺ إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجه ولا برهان إنما يدفعهم لهذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر، ويوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق، سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه.

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث، فبعد توجيه الرسول ﷺ للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله﴾[40:78] ويصور ختام السورة نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.

تفسير القرآن الكريم سورة غافر.



سنة النشر : 2016م / 1437هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 11.5 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة تفسير القرآن الكريم سورة غافر

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل تفسير القرآن الكريم سورة غافر
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
محمد بن صالح العثيمين - Mohammad ibn Saaleh Elothmanyen

كتب محمد بن صالح العثيمين محمد بن صالح العثيمين ، هو أبو عَبد الله مُحَمّد بن صَالِح بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمن العُثَيْمِين الوهيبي التميمي (29 مارس 1929 - 11 يناير 2001).  ولد في ليلة 27 رمضان عام 1347 هـ، في عنيزة إحدى مدن القصيم. قرأ القرآن الكريم على جده من جهة أمه عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ؛ فحفظه ثم اتجه إلى طلب العلم وتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ شرح رياض الصالحين (ابن عثيمين) ❝ ❞ شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ❝ ❞ شرح الآجرومية ❝ ❞ عقيدة أهل السنة والجماعة ❝ ❞ شرح كتاب السياسة الشرعية ❝ ❞ مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / المجلد الأول : العقيدة ❝ ❞ القول المفيد على كتاب التوحيد ❝ ❞ شرح صحيح البخاري ❝ ❞ EHL-İ SÜNNRT VEL-CEMAAT AKÎDESİ - عقيدة أهل السنة والجماعة (تركي) ❝ الناشرين : ❞ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ❝ ❞ مكتبة الملك فهد الوطنية ❝ ❞ موقع دار الإسلام ❝ ❞ دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الإسلام للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار ابن الجوزي ❝ ❞ دار طيبة للنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتبة الرشد ❝ ❞ المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة ❝ ❞ دار العاصمة للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار الوطن للطباعة والنشر والعلاقات العامة ❝ ❞ مدار الوطن للنشر ❝ ❞ مكتبة الصحابة ❝ ❞ مكتب الدعوة بالربوة ❝ ❞ دار ابن خزيمة للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار أضواء السلف ❝ ❞ دار ابن القيم ❝ ❞ الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء ❝ ❞ مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية ❝ ❞ دار الثريا للنشر ❝ ❞ مكتبة السنة ❝ ❞ دار الوطن ❝ ❞ وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ❝ ❞ دار الغد الجديد ❝ ❞ دار طويق للنشر والتوزيع ❝ ❞ مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع ❝ ❞ دار البصيرة ❝ ❞ دار السنة ❝ ❞ مكتبة التوعية الإسلامية ❝ ❞ دار عباد الرحمن ❝ ❞ مكتبة الأمة ❝ ❞ مؤسسة الشيخ محمد ابن صالح العثيمين ❝ ❞ الإسلام 2012 ❝ ❞ دار ابن الهيثم ❝ ❞ دار الدرة للنشر و التوزيع ❝ ❞ دار الشريعة ❝ ❱. المزيد..

كتب محمد بن صالح العثيمين
الناشر:
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
كتب مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيريةمؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية : مؤسسة تهدف إلى العناية والاهتمام بالتراث العلمي للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - مع مواصلة الأعمال التي كان يقوم بها في مختلف ميادين الخير والبر والإحسان ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ رسالة الحجاب ❝ ❞ مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ❝ ❞ مختارات من زاد المعاد في هدي خير العباد ❝ ❞ شرح البلاغة من قواعد اللغة العربية ❝ ❞ تفسير القرآن الكريم - سورة لقمان ❝ ❞ تفسير القرآن الكريم سورة العنكبوت ❝ ❞ تفسير القرآن الكريم - سورة القصص ❝ ❞ تفسير القرآن الكريم - سورة السجدة ❝ ❞ تفسير القرآن الكريم - سورة الروم ❝ ❞ فتاوى الكتب على الدرب للشيخ ابن عثيمين ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ محمد بن صالح العثيمين ❝ ❞ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ❝ ❱.المزيد.. كتب مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية