❞ كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه ❝  ⏤ حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله

❞ كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه ❝ ⏤ حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله



أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80-150 هـ/ 699-767م) فقيه وعالم مسلم، وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي. اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى قال فيه الإمام الشافعي: «من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة»، ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفاً بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية. كان أبو حنيفة يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

وُلد أبو حنيفة بالكوفة ونشأ فيها، وقد كانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة، ينتشر فيها العلماء أصحاب المذاهب والديانات المختلفة، وقد نشأ أبو حنيفة في هذه البيئة الغنية بالعلم والعلماء، فابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، فأبوه وجده كانا تاجرين، ثم انصرف إلى طلب العلم، وصار يختلف إلى حلقات العلماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد أن استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان يتعلم منه الفقه حتى مات حماد سنة 120 هـ، فتولى أبو حنيفة رئاسة حلقة شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي.

وقعت بالإمام أبي حنيفة محنتان، المحنة الأولى في عصر الدولة الأموية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام زيد بن علي، ورفض أن يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، فحبسه الوالي وضربه، وانتهت المحنة بخروجه إلى مكة عام 130 هـ، وظل مقيماً بها حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. أما المحنة الثانية فكانت في عصر الدولة العباسية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام محمد النفس الزكية، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، وعندما دعاه أبو جعفر المنصور ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه أن يكون قاضي القضاة فامتنع، فحبسه إلى أن توفي في بغداد سنة 150 هـ، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد، وبني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم عام 375 هـ.

رُوي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: «آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب -وعدَّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا».

وقال سهل بن مزاحم: «كلام أبي حنيفة أخذٌ بالثقة وفرارٌ من القبح، والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه وصلح عليه أمورهم، يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس أمضاها على الاستحسان، ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يؤصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى الاستحسان أيهما كان أوفق رجع إليه».

هذه النقول وغيرها تدل على مجموع المصادر الفقهية عند الإمام أبي حنيفة، فهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

ولقد ألف الإمام المرتضى الزبيدي كتابا في أدلة المذهب الحنفي أسماه : (عقود الجواهر الحنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة).

القرآن الكريم
القرآن الكريم عند الإمام أبي حنيفة هو المصدر الأول والأعلى في مسائل الفقهية، لأنه الكتاب القطعي الثبوت، لا يُشك في حرف منه، وأنه ليس يوازيه ولا يصل إلى رتبته في الثبوت إلا الحديث المتواتر، لذلك لا يرى نسخ القرآن الكريم بخبر الآحاد من السنة، وإنما يعمل بها ما أمكن، وإلا ترك السنة الظنية للكتاب القطعي.

السنة النبوية
لا يجعل الإمام أبو حنيفة السنة النبوية في رتبة واحدة، بل يُقدم مثلاً السنة القولية على الفعلية، لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي، ويُقدم السنة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، بل إنه يترك العمل بخبر الآحاد إذا خالف قاعدة شرعية مأخوذة من نص القرآن أو السنة.

الإجماع
فما أجمع عليه أصحاب الرسول وما اختلفوا فيه لا يخرج عن أقوالهم إلى أقوال غيرهم، والإجماع: هو اتفاق الأئمة المجتهدين في عصر من العصور بعد انتقال الرسول عن الدنيا على حكم شرعي، والإجماع عند الإمام أبي حنيفة حجة معمول به.

القياس
وهو إلحاق فرع بأصل فيه نص بحكم معين من الوجوب أو الحرمة، لوجود علة الحكم في الفرع كما هي في الأصل. والإمام أبو حنيفة يُقدم السنة ولو كان حديثاً مرسلاً على القياس، كما يقدم الحديث الضعيف على القياس.

الاستحسان
وهو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، وقد بان أن الاستحسان عند الإمام أبي حنيفة ليس اتباعاً للهوى ولا حكماً بالغرض، ولكنه اختيار أقوى الدليلين في حادثة معينة.

العرف والعادة
وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، والأصل في اعتبار العرف دليلاً شرعياً قول ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن»، ويكون العرف دليلاً حيث لا دليل شرعي من الكتاب والسنة، أما إذا خالف العرف الكتاب والسنة كتعارف بعض التجار التعامل بالربا، فهو عرف مردود لأنه محادٌّ للشريعة ومخالف لها.

تجارته
نشأ أبو حنيفة في بيت من بيوت أهل اليسار والغنى، فأبوه وجده كانا تاجرين، ويغلب على الظن أن تجارتهما كانت في الخز (وهو نوع من الأقمشة)، وهي تجارة تدر على صاحبها الخير الوفير، وأخذ أبو حنيفة عنهما هذه التجارة، فنشأ أول نشأته يختلف إلى السوق، ولا يعكف على الاستماع إلى العلماء، ثم اتجه إلى العلم، ولكنه لم ينقطع عن التجارة، بل استمر تاجراً إلى أن مات، وكان له شريك يظهر أنه أعانه على الاستمرار في طلب العلم وخدمة الفقه ورواية الحديث.

اتصف أبو حنيفة التاجر بصفات تجعله مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم، فقد كان ثري النفس لم يستولِ عليه الطمع الذي يفقر النفوس، ولعل منشأ ذلك أنه نشأ في أسرة غنية فلم يذق ذل الحاجة، وكان عظيم الأمانة شديداً على نفسه في كل ما يتصل بها، وكان سمحاً قد وقاه الله شح نفسه، وكان بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة يصوم النهار ويقوم الليل. فكان لهذه الصفات أثرها في معاملاته التجارية، حتى كان غريباً بين التجار، وحتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق. ويُروى أنه قد جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فقال: «كم ثمنه؟»، فقالت: «مئة»، فقال: «هو خير من مئة، بكم تقولين؟»، فزادت مئة مئة حتى قالت: «أربعمئة»، قال: «هو خير من ذلك»، قالت: «تهزأ بي»، قال: «هاتي رجلاً يقومه»، فجاءت برجل، فاشتراه بخمسمئة.

ولقد كان أبو حنيفة شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم ولو كانت بعيدة، فإن ظن إثماً أو توهمه في مال خرج منه، وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويُروى أنه بعث شريكه حفص بن عبد الرحمن بمتاع، وأعلمه أن في ثوب منه عيباً، وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين، ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.

وقد كانت تجارة أبي حنيفة تدر عليه الدر الوفير، ويُروى أنه كان يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائجَ المشايخ والمحدثين وأقواتَهم وكسوتَهم وجميعَ حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: «أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً، ولكن من فضل الله علي فيكم». كما كان أبو حنيفة حريصاً أن يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه، يختارها جيدة، حتى لقد كان كساؤه يُقوَّم بثلاثين ديناراً، وكان حسن الهيئة كثير التعطر.

دوره في بناء بغداد
خبرته الطويلة في المعاملات المالية والتجارية أكسبته بصراً وبصيرة في كثير من أقسام القانون وشعابه مما لا يتيسر للعارفين بالقانون من الناحية العلمية النظرية فحسب. فلقد أعانته خبرته هذه عوناً كبيراً على تدوين الفقه الإسلامي إلى جانب فراسته ومهارته في المعاملات والأمور الدنيوية مما حدث حينما بدأ المنصور بناء بغداد عام 145هـ (762م) إذ خص أبا حنيفة بالإشراف عليها فكان المشرف العام على بنائها أربعة أعوام ، وعندما انتهى البناء نقل مجالس علمه إليها، حتى توفي في عام ١٥٠ هـ.

محنته الأولى وهربه إلى مكة
عاش أبو حنيفة 52 سنة من حياته في العصر الأموي، و18 سنة في العصر العباسي، فهو قد أدرك دولتين من دول الإسلام. ويُروى أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك سنة 121هـ كان أبو حنيفة من المؤيدين للإمام زيد، قال أبو حنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر»، ويُروى أنه قال في الاعتذار عن عدم الخروج معه: «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم». وانتهت ثورة الإمام زيد بقتله سنة 132هـ، كما قتل ابنه يحيى في خراسان، وابنه عبد الله بن يحيى في اليمن. ولقد كان لزيد بن علي منزلة في نفس أبي حنيفة، وكان يُقدِّره في علمه وخلقه ودينه، وعدَّه الإمام بحق، وأمده بالمال، ثم رآه يُقتل بسيف الأمويين، ثم يُقتل من بعده ابنه، ثم من بعده حفيده، فأحنقه كل ذلك.

كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة آنذاك، فأرسل إلى أبي حنيفة يريد أن يجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يد أبي حنيفة، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، فحلف الوالي أن يضربه إن لم يقبل، فنصح الناسُ أبا حنيفة أن يقبل ذلك المنصب، فقال أبو حنيفة: «لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يُكتب دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبداً»، فحبسه صاحب الشرطة، وضربه أياماً متتالية، فجاء الضارب إلى الوالي وقال له: «إن الرجل ميت»، فقال الوالي: «قل له: تخرجنا من يميننا؟»، فسأله فقال أبو حنيفة: «لو سألني أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت»، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فركب دوابه وهرب إلى مكة بعد أن مكَّن له الجلاد من أسباب الفرار، وكان هذا في سنة 130هـ. ولقد وجد في الحرم المكي أمناً، فعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس، والتقى أبو حنيفة بتلاميذه فيها، وذاكرهم علمه وذاكروه ما عندهم، وظل مقيماً بمكة حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور.
حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ أخبار أبي حنيفة وأصحابه ❝ الناشرين : ❞ عالم الكتب ❝ ❱
من التراجم والأعلام - مكتبة كتب إسلامية.

نبذة عن الكتاب:
أخبار أبي حنيفة وأصحابه

1985م - 1446هـ


أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80-150 هـ/ 699-767م) فقيه وعالم مسلم، وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي. اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى قال فيه الإمام الشافعي: «من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة»، ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفاً بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية. كان أبو حنيفة يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

وُلد أبو حنيفة بالكوفة ونشأ فيها، وقد كانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة، ينتشر فيها العلماء أصحاب المذاهب والديانات المختلفة، وقد نشأ أبو حنيفة في هذه البيئة الغنية بالعلم والعلماء، فابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، فأبوه وجده كانا تاجرين، ثم انصرف إلى طلب العلم، وصار يختلف إلى حلقات العلماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد أن استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان يتعلم منه الفقه حتى مات حماد سنة 120 هـ، فتولى أبو حنيفة رئاسة حلقة شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي.

وقعت بالإمام أبي حنيفة محنتان، المحنة الأولى في عصر الدولة الأموية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام زيد بن علي، ورفض أن يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، فحبسه الوالي وضربه، وانتهت المحنة بخروجه إلى مكة عام 130 هـ، وظل مقيماً بها حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. أما المحنة الثانية فكانت في عصر الدولة العباسية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام محمد النفس الزكية، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، وعندما دعاه أبو جعفر المنصور ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه أن يكون قاضي القضاة فامتنع، فحبسه إلى أن توفي في بغداد سنة 150 هـ، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد، وبني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم عام 375 هـ.

رُوي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: «آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب -وعدَّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا».

وقال سهل بن مزاحم: «كلام أبي حنيفة أخذٌ بالثقة وفرارٌ من القبح، والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه وصلح عليه أمورهم، يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس أمضاها على الاستحسان، ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يؤصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى الاستحسان أيهما كان أوفق رجع إليه».

هذه النقول وغيرها تدل على مجموع المصادر الفقهية عند الإمام أبي حنيفة، فهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

ولقد ألف الإمام المرتضى الزبيدي كتابا في أدلة المذهب الحنفي أسماه : (عقود الجواهر الحنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة).

القرآن الكريم
القرآن الكريم عند الإمام أبي حنيفة هو المصدر الأول والأعلى في مسائل الفقهية، لأنه الكتاب القطعي الثبوت، لا يُشك في حرف منه، وأنه ليس يوازيه ولا يصل إلى رتبته في الثبوت إلا الحديث المتواتر، لذلك لا يرى نسخ القرآن الكريم بخبر الآحاد من السنة، وإنما يعمل بها ما أمكن، وإلا ترك السنة الظنية للكتاب القطعي.

السنة النبوية
لا يجعل الإمام أبو حنيفة السنة النبوية في رتبة واحدة، بل يُقدم مثلاً السنة القولية على الفعلية، لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي، ويُقدم السنة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، بل إنه يترك العمل بخبر الآحاد إذا خالف قاعدة شرعية مأخوذة من نص القرآن أو السنة.

الإجماع
فما أجمع عليه أصحاب الرسول وما اختلفوا فيه لا يخرج عن أقوالهم إلى أقوال غيرهم، والإجماع: هو اتفاق الأئمة المجتهدين في عصر من العصور بعد انتقال الرسول عن الدنيا على حكم شرعي، والإجماع عند الإمام أبي حنيفة حجة معمول به.

القياس
وهو إلحاق فرع بأصل فيه نص بحكم معين من الوجوب أو الحرمة، لوجود علة الحكم في الفرع كما هي في الأصل. والإمام أبو حنيفة يُقدم السنة ولو كان حديثاً مرسلاً على القياس، كما يقدم الحديث الضعيف على القياس.

الاستحسان
وهو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، وقد بان أن الاستحسان عند الإمام أبي حنيفة ليس اتباعاً للهوى ولا حكماً بالغرض، ولكنه اختيار أقوى الدليلين في حادثة معينة.

العرف والعادة
وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، والأصل في اعتبار العرف دليلاً شرعياً قول ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن»، ويكون العرف دليلاً حيث لا دليل شرعي من الكتاب والسنة، أما إذا خالف العرف الكتاب والسنة كتعارف بعض التجار التعامل بالربا، فهو عرف مردود لأنه محادٌّ للشريعة ومخالف لها.

تجارته
نشأ أبو حنيفة في بيت من بيوت أهل اليسار والغنى، فأبوه وجده كانا تاجرين، ويغلب على الظن أن تجارتهما كانت في الخز (وهو نوع من الأقمشة)، وهي تجارة تدر على صاحبها الخير الوفير، وأخذ أبو حنيفة عنهما هذه التجارة، فنشأ أول نشأته يختلف إلى السوق، ولا يعكف على الاستماع إلى العلماء، ثم اتجه إلى العلم، ولكنه لم ينقطع عن التجارة، بل استمر تاجراً إلى أن مات، وكان له شريك يظهر أنه أعانه على الاستمرار في طلب العلم وخدمة الفقه ورواية الحديث.

اتصف أبو حنيفة التاجر بصفات تجعله مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم، فقد كان ثري النفس لم يستولِ عليه الطمع الذي يفقر النفوس، ولعل منشأ ذلك أنه نشأ في أسرة غنية فلم يذق ذل الحاجة، وكان عظيم الأمانة شديداً على نفسه في كل ما يتصل بها، وكان سمحاً قد وقاه الله شح نفسه، وكان بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة يصوم النهار ويقوم الليل. فكان لهذه الصفات أثرها في معاملاته التجارية، حتى كان غريباً بين التجار، وحتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق. ويُروى أنه قد جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فقال: «كم ثمنه؟»، فقالت: «مئة»، فقال: «هو خير من مئة، بكم تقولين؟»، فزادت مئة مئة حتى قالت: «أربعمئة»، قال: «هو خير من ذلك»، قالت: «تهزأ بي»، قال: «هاتي رجلاً يقومه»، فجاءت برجل، فاشتراه بخمسمئة.

ولقد كان أبو حنيفة شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم ولو كانت بعيدة، فإن ظن إثماً أو توهمه في مال خرج منه، وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويُروى أنه بعث شريكه حفص بن عبد الرحمن بمتاع، وأعلمه أن في ثوب منه عيباً، وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين، ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.

وقد كانت تجارة أبي حنيفة تدر عليه الدر الوفير، ويُروى أنه كان يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائجَ المشايخ والمحدثين وأقواتَهم وكسوتَهم وجميعَ حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: «أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً، ولكن من فضل الله علي فيكم». كما كان أبو حنيفة حريصاً أن يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه، يختارها جيدة، حتى لقد كان كساؤه يُقوَّم بثلاثين ديناراً، وكان حسن الهيئة كثير التعطر.

دوره في بناء بغداد
خبرته الطويلة في المعاملات المالية والتجارية أكسبته بصراً وبصيرة في كثير من أقسام القانون وشعابه مما لا يتيسر للعارفين بالقانون من الناحية العلمية النظرية فحسب. فلقد أعانته خبرته هذه عوناً كبيراً على تدوين الفقه الإسلامي إلى جانب فراسته ومهارته في المعاملات والأمور الدنيوية مما حدث حينما بدأ المنصور بناء بغداد عام 145هـ (762م) إذ خص أبا حنيفة بالإشراف عليها فكان المشرف العام على بنائها أربعة أعوام ، وعندما انتهى البناء نقل مجالس علمه إليها، حتى توفي في عام ١٥٠ هـ.

محنته الأولى وهربه إلى مكة
عاش أبو حنيفة 52 سنة من حياته في العصر الأموي، و18 سنة في العصر العباسي، فهو قد أدرك دولتين من دول الإسلام. ويُروى أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك سنة 121هـ كان أبو حنيفة من المؤيدين للإمام زيد، قال أبو حنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر»، ويُروى أنه قال في الاعتذار عن عدم الخروج معه: «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم». وانتهت ثورة الإمام زيد بقتله سنة 132هـ، كما قتل ابنه يحيى في خراسان، وابنه عبد الله بن يحيى في اليمن. ولقد كان لزيد بن علي منزلة في نفس أبي حنيفة، وكان يُقدِّره في علمه وخلقه ودينه، وعدَّه الإمام بحق، وأمده بالمال، ثم رآه يُقتل بسيف الأمويين، ثم يُقتل من بعده ابنه، ثم من بعده حفيده، فأحنقه كل ذلك.

كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة آنذاك، فأرسل إلى أبي حنيفة يريد أن يجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يد أبي حنيفة، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، فحلف الوالي أن يضربه إن لم يقبل، فنصح الناسُ أبا حنيفة أن يقبل ذلك المنصب، فقال أبو حنيفة: «لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يُكتب دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبداً»، فحبسه صاحب الشرطة، وضربه أياماً متتالية، فجاء الضارب إلى الوالي وقال له: «إن الرجل ميت»، فقال الوالي: «قل له: تخرجنا من يميننا؟»، فسأله فقال أبو حنيفة: «لو سألني أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت»، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فركب دوابه وهرب إلى مكة بعد أن مكَّن له الجلاد من أسباب الفرار، وكان هذا في سنة 130هـ. ولقد وجد في الحرم المكي أمناً، فعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس، والتقى أبو حنيفة بتلاميذه فيها، وذاكرهم علمه وذاكروه ما عندهم، وظل مقيماً بمكة حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور. .
المزيد..

تعليقات القرّاء:

أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80-150 هـ/ 699-767م) فقيه وعالم مسلم، وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي. اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى قال فيه الإمام الشافعي: «من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة»، ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفاً بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية. كان أبو حنيفة يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

وُلد أبو حنيفة بالكوفة ونشأ فيها، وقد كانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة، ينتشر فيها العلماء أصحاب المذاهب والديانات المختلفة، وقد نشأ أبو حنيفة في هذه البيئة الغنية بالعلم والعلماء، فابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، فأبوه وجده كانا تاجرين، ثم انصرف إلى طلب العلم، وصار يختلف إلى حلقات العلماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد أن استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان يتعلم منه الفقه حتى مات حماد سنة 120 هـ، فتولى أبو حنيفة رئاسة حلقة شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي.

وقعت بالإمام أبي حنيفة محنتان، المحنة الأولى في عصر الدولة الأموية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام زيد بن علي، ورفض أن يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة، فحبسه الوالي وضربه، وانتهت المحنة بخروجه إلى مكة عام 130 هـ، وظل مقيماً بها حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. أما المحنة الثانية فكانت في عصر الدولة العباسية، وسببها أنه وقف مع ثورة الإمام محمد النفس الزكية، وكان يجهر بمخالفة المنصور في غاياته عندما يستفتيه، وعندما دعاه أبو جعفر المنصور ليتولى القضاء امتنع، فطلب منه أن يكون قاضي القضاة فامتنع، فحبسه إلى أن توفي في بغداد سنة 150 هـ، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد، وبني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم عام 375 هـ.

رُوي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: «آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب -وعدَّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا».

وقال سهل بن مزاحم: «كلام أبي حنيفة أخذٌ بالثقة وفرارٌ من القبح، والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه وصلح عليه أمورهم، يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس أمضاها على الاستحسان، ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يؤصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى الاستحسان أيهما كان أوفق رجع إليه».

هذه النقول وغيرها تدل على مجموع المصادر الفقهية عند الإمام أبي حنيفة، فهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

ولقد ألف الإمام المرتضى الزبيدي كتابا في أدلة المذهب الحنفي أسماه : (عقود الجواهر الحنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة).

القرآن الكريم
القرآن الكريم عند الإمام أبي حنيفة هو المصدر الأول والأعلى في مسائل الفقهية، لأنه الكتاب القطعي الثبوت، لا يُشك في حرف منه، وأنه ليس يوازيه ولا يصل إلى رتبته في الثبوت إلا الحديث المتواتر، لذلك لا يرى نسخ القرآن الكريم بخبر الآحاد من السنة، وإنما يعمل بها ما أمكن، وإلا ترك السنة الظنية للكتاب القطعي.

السنة النبوية
لا يجعل الإمام أبو حنيفة السنة النبوية في رتبة واحدة، بل يُقدم مثلاً السنة القولية على الفعلية، لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي، ويُقدم السنة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، بل إنه يترك العمل بخبر الآحاد إذا خالف قاعدة شرعية مأخوذة من نص القرآن أو السنة.

الإجماع
فما أجمع عليه أصحاب الرسول وما اختلفوا فيه لا يخرج عن أقوالهم إلى أقوال غيرهم، والإجماع: هو اتفاق الأئمة المجتهدين في عصر من العصور بعد انتقال الرسول عن الدنيا على حكم شرعي، والإجماع عند الإمام أبي حنيفة حجة معمول به.

القياس
وهو إلحاق فرع بأصل فيه نص بحكم معين من الوجوب أو الحرمة، لوجود علة الحكم في الفرع كما هي في الأصل. والإمام أبو حنيفة يُقدم السنة ولو كان حديثاً مرسلاً على القياس، كما يقدم الحديث الضعيف على القياس.

الاستحسان
وهو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، وقد بان أن الاستحسان عند الإمام أبي حنيفة ليس اتباعاً للهوى ولا حكماً بالغرض، ولكنه اختيار أقوى الدليلين في حادثة معينة.

العرف والعادة
وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، والأصل في اعتبار العرف دليلاً شرعياً قول ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن»، ويكون العرف دليلاً حيث لا دليل شرعي من الكتاب والسنة، أما إذا خالف العرف الكتاب والسنة كتعارف بعض التجار التعامل بالربا، فهو عرف مردود لأنه محادٌّ للشريعة ومخالف لها.

تجارته
نشأ أبو حنيفة في بيت من بيوت أهل اليسار والغنى، فأبوه وجده كانا تاجرين، ويغلب على الظن أن تجارتهما كانت في الخز (وهو نوع من الأقمشة)، وهي تجارة تدر على صاحبها الخير الوفير، وأخذ أبو حنيفة عنهما هذه التجارة، فنشأ أول نشأته يختلف إلى السوق، ولا يعكف على الاستماع إلى العلماء، ثم اتجه إلى العلم، ولكنه لم ينقطع عن التجارة، بل استمر تاجراً إلى أن مات، وكان له شريك يظهر أنه أعانه على الاستمرار في طلب العلم وخدمة الفقه ورواية الحديث.

اتصف أبو حنيفة التاجر بصفات تجعله مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم، فقد كان ثري النفس لم يستولِ عليه الطمع الذي يفقر النفوس، ولعل منشأ ذلك أنه نشأ في أسرة غنية فلم يذق ذل الحاجة، وكان عظيم الأمانة شديداً على نفسه في كل ما يتصل بها، وكان سمحاً قد وقاه الله شح نفسه، وكان بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة يصوم النهار ويقوم الليل. فكان لهذه الصفات أثرها في معاملاته التجارية، حتى كان غريباً بين التجار، وحتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق. ويُروى أنه قد جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فقال: «كم ثمنه؟»، فقالت: «مئة»، فقال: «هو خير من مئة، بكم تقولين؟»، فزادت مئة مئة حتى قالت: «أربعمئة»، قال: «هو خير من ذلك»، قالت: «تهزأ بي»، قال: «هاتي رجلاً يقومه»، فجاءت برجل، فاشتراه بخمسمئة.

ولقد كان أبو حنيفة شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم ولو كانت بعيدة، فإن ظن إثماً أو توهمه في مال خرج منه، وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، ويُروى أنه بعث شريكه حفص بن عبد الرحمن بمتاع، وأعلمه أن في ثوب منه عيباً، وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين، ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.

وقد كانت تجارة أبي حنيفة تدر عليه الدر الوفير، ويُروى أنه كان يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائجَ المشايخ والمحدثين وأقواتَهم وكسوتَهم وجميعَ حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: «أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً، ولكن من فضل الله علي فيكم». كما كان أبو حنيفة حريصاً أن يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه، يختارها جيدة، حتى لقد كان كساؤه يُقوَّم بثلاثين ديناراً، وكان حسن الهيئة كثير التعطر.

دوره في بناء بغداد
خبرته الطويلة في المعاملات المالية والتجارية أكسبته بصراً وبصيرة في كثير من أقسام القانون وشعابه مما لا يتيسر للعارفين بالقانون من الناحية العلمية النظرية فحسب. فلقد أعانته خبرته هذه عوناً كبيراً على تدوين الفقه الإسلامي إلى جانب فراسته ومهارته في المعاملات والأمور الدنيوية مما حدث حينما بدأ المنصور بناء بغداد عام 145هـ (762م) إذ خص أبا حنيفة بالإشراف عليها فكان المشرف العام على بنائها أربعة أعوام ، وعندما انتهى البناء نقل مجالس علمه إليها، حتى توفي في عام ١٥٠ هـ.

محنته الأولى وهربه إلى مكة
عاش أبو حنيفة 52 سنة من حياته في العصر الأموي، و18 سنة في العصر العباسي، فهو قد أدرك دولتين من دول الإسلام. ويُروى أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك سنة 121هـ كان أبو حنيفة من المؤيدين للإمام زيد، قال أبو حنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر»، ويُروى أنه قال في الاعتذار عن عدم الخروج معه: «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم». وانتهت ثورة الإمام زيد بقتله سنة 132هـ، كما قتل ابنه يحيى في خراسان، وابنه عبد الله بن يحيى في اليمن. ولقد كان لزيد بن علي منزلة في نفس أبي حنيفة، وكان يُقدِّره في علمه وخلقه ودينه، وعدَّه الإمام بحق، وأمده بالمال، ثم رآه يُقتل بسيف الأمويين، ثم يُقتل من بعده ابنه، ثم من بعده حفيده، فأحنقه كل ذلك.

كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة آنذاك، فأرسل إلى أبي حنيفة يريد أن يجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يد أبي حنيفة، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، فحلف الوالي أن يضربه إن لم يقبل، فنصح الناسُ أبا حنيفة أن يقبل ذلك المنصب، فقال أبو حنيفة: «لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يُكتب دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبداً»، فحبسه صاحب الشرطة، وضربه أياماً متتالية، فجاء الضارب إلى الوالي وقال له: «إن الرجل ميت»، فقال الوالي: «قل له: تخرجنا من يميننا؟»، فسأله فقال أبو حنيفة: «لو سألني أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت»، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فركب دوابه وهرب إلى مكة بعد أن مكَّن له الجلاد من أسباب الفرار، وكان هذا في سنة 130هـ. ولقد وجد في الحرم المكي أمناً، فعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس، والتقى أبو حنيفة بتلاميذه فيها، وذاكرهم علمه وذاكروه ما عندهم، وظل مقيماً بمكة حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور.

أخبار أبي حنيفة وأصحابه

التراجم والأعلام

كيف مات أبو حنيفة

لماذا سمي أبو حنيفة بهذا الاسم

قصص أبو حنيفة

مسند أبي حنيفة

لماذا سمي أبو حنيفة بأبي حنيفة

كيف مات الإمام أبو حنيفة النعمان

قصة أبو حنيفة النعمان

لماذا نقول على مذهب أبي حنيفة



سنة النشر : 1985م / 1405هـ .
حجم الكتاب عند التحميل : 2.7 ميجا بايت .
نوع الكتاب : pdf.
عداد القراءة: عدد قراءة أخبار أبي حنيفة وأصحابه

اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل أخبار أبي حنيفة وأصحابه
شكرًا لمساهمتكم

شكراً لمساهمتكم معنا في الإرتقاء بمستوى المكتبة ، يمكنكم االتبليغ عن اخطاء او سوء اختيار للكتب وتصنيفها ومحتواها ، أو كتاب يُمنع نشره ، او محمي بحقوق طبع ونشر ، فضلاً قم بالتبليغ عن الكتاب المُخالف:

برنامج تشغيل ملفات pdfقبل تحميل الكتاب ..
يجب ان يتوفر لديكم برنامج تشغيل وقراءة ملفات pdf
يمكن تحميلة من هنا 'http://get.adobe.com/reader/'

المؤلف:
حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله - HSIN BN ALI ALSIMRI ABO ABD ALLH

كتب حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ أخبار أبي حنيفة وأصحابه ❝ الناشرين : ❞ عالم الكتب ❝ ❱. المزيد..

كتب حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله
الناشر:
عالم الكتب
كتب عالم الكتب تأسـسـت عالم الكتب فى نوفمـبر 1959، وقام بتأسيسها الأستاذ يوسف عبد الرحمن على رحمه الله وبذل جهداَ مضاعفاَ حتى يصنع لهذه الدار إسماَ بين الأسماء الكبيرة من دور النشر التى كانت ساطعة فى سماء النشر حين قام بتأسيس هذه الدار . ❰ ناشرين لمجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ معجم اللغة العربية المعاصرة ❝ ❞ قواعد الخط العربي ❝ ❞ أصول التربية الإسلامية ❝ ❞ اختبار ذكاء الاطفال ❝ ❞ الخصائص ❝ ❞ جمهرة النسب ❝ ❞ معجم العلماء العرب ج1 ❝ ❞ الشامل قاموس مصطلحات العلوم الإجتماعية إنجليزي وعربي ❝ ❞ أهدى سبيل إلى علمي الخليل العروض والقافية ❝ ❞ معجم الأوزان الصرفية ❝ ومن أبرز المؤلفين : ❞ أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ❝ ❞ شمس الدين الذهبي ❝ ❞ جلال الدين السيوطي ❝ ❞ مجموعة من المؤلفين ❝ ❞ جمال حمدان ❝ ❞ هاشم محمد الخطاط ❝ ❞ أحمد مختار عمر ❝ ❞ إميل بديع يعقوب ❝ ❞ ماجد عرسان الكيلاني ❝ ❞ زين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ❝ ❞ الطبراني ❝ ❞ عثمان بن جني أبو الفتح ❝ ❞ أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني ❝ ❞ أبو عبد الله محمد بن الطيب الفاسي السيوطي ❝ ❞ هناء بنت عبدالعزيز الصنيع ❝ ❞ أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري البغدادي ❝ ❞ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ❝ ❞ هشام بن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر ❝ ❞ خالد بن حامد الحازمي ❝ ❞ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي ❝ ❞ أبو إسحاق الزجاج ❝ ❞ إجلال محمد سرى ❝ ❞ صابر طعيمة ❝ ❞ يوسف بن تغري بردي الأتابكي جمال الدين أبو المحاسن ❝ ❞ أبو القاسم ابن بشكوال ❝ ❞ محمود إسماعيل عمار ❝ ❞ محمود مصطفى ❝ ❞ عبد الله محمد بن مفلح المقدسي ❝ ❞ أبي جعفر الطحاوي الحنفي ❝ ❞ فهد بن عبد العزيز السنيدى ❝ ❞ أبو العباس أحمد القلقشندي ❝ ❞ محمد نجاتى الغزالى ❝ ❞ عبد الرحمن بن قدامة المقدسي ❝ ❞ السيد أمين شلبي ❝ ❞ محمد لطفي جمعة ❝ ❞ علي حيدر ❝ ❞ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى ❝ ❞ أبو عبيد البكري الأونبى ❝ ❞ د.سعيد إسماعيل علي ❝ ❞ عبد الله عمر البارودي ❝ ❞ أ.د.كوثر حسين كوجك ❝ ❞ أسامة بن منقذ ❝ ❞ سليم البعلبكي ❝ ❞ سمير البعلبكي ❝ ❞ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أبو الفضل ❝ ❞ حاتم صالح الضامن ❝ ❞ سارة شحاتة ❝ ❞ صابر طعمية ❝ ❞ باقر أمين الورد ❝ ❞ محمد بن خلف بن حيان وكيع ❝ ❞ أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني ❝ ❞ الليث بن سعد ❝ ❞ محمد بن حبيب البغدادي ❝ ❞ ماريو باي ❝ ❞ ابن فرحون اليعمري ❝ ❞ عبد الله أبو السعود بدر ❝ ❞ أحمد بن يوسف القرماني ❝ ❞ د. أحمد محمد عدوان ❝ ❞ سعيد بن علي بن ثابت ❝ ❞ أحمد بن محمد أبابطين ❝ ❞ بشرى زخارى ميخائيل ❝ ❞ محمد عبد الله الخرعان ❝ ❞ اسماعيل بن ابي بكر المقري ❝ ❞ حسين مناصرة ❝ ❞ حمزة بن يوسف السهمي ❝ ❞ أحمد بن محمد البنا ❝ ❞ د. نجم بن مسفر الحصيني ❝ ❞ صديقة عبدالرحيم ❝ ❞ السرخسي الشيباني العتابي ❝ ❞ عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ❝ ❞ أبو سعد نصر بن يعقوب الديالكتبي القادري ❝ ❞ Basil Altaie ❝ ❞ سناء محمد سليمان ❝ ❞ عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء العكبري ❝ ❞ عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي الشافعي محمد بخيت المطيعي ❝ ❞ محمد بن تقي الدين الأيوبي ❝ ❞ نمر بن محمد الحميداني ❝ ❞ محمد كمال الدين عز الدين ❝ ❞ فهمي سعد ❝ ❞ محمد بن عبد الرحمن المغربي الحطاب الرعيني محمد بن يوسف المواق ❝ ❞ حسن حسين زيتون ❝ ❞ حسين بن علي الصيمري أبو عبد الله ❝ ❞ السيد أبو المعاطي الالكتبي إبراهيم أحمد الالكتبي أحمد عبد الرزاق عيد أيمن إبراهيم الزاملي محمود محمد خليل الصعيدي وآخرون ❝ ❞ خضر موسى محمد حمود ❝ ❞ علي أبو الحسن النصر أبو القاسم ❝ ❞ خير سليمان شواهين ❝ ❞ تحقيق: د. رياض بن حسن الخوام ❝ ❞ عبد الرحيم بن الحسين العراقي زين الدين أبو الفضل ❝ ❞ مجدى عزيز ابراهيم ❝ ❞ أبو عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي الحنبلي ❝ ❞ عبد الله بن عبد الحكيم أبو محمد ❝ ❞ ابن حامد الحنبلي ❝ ❞ يوسف بن موسى بن محمد، أبو المحاسن جمال الدين الملطي الحنفي ❝ ❞ جمال الدين أبن حديدة الأنصاري ❝ ❞ الزبير بن بكار الأسدي المكي ❝ ❞ كمال عبد الحميد زيتون ❝ ❞ صلاح الدين أبو سعيد كيكلدي العلائي ❝ ❞ محمد بن رياض الأحمد السلفي الأثري ❝ ❞ محمد البدانى وسجى سالم حسن ❝ ❞ محمد رجب فضل الله ❝ ❞ أحمد علي العريان ❝ ❞ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي/القرافي ❝ ❞ ابن الفقيه الهمذاني ❝ ❞ أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل العسكري ❝ ❞ أحمد نظام الدين بن معصوم المدني ❝ ❞ مرتضى علي شرارة ❝ ❞ إسحاق بن الحسين المنجم ❝ ❱.المزيد.. كتب عالم الكتب